العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. قصتي مع المرآة

يمنات

أحمد سيف حاشد

حالما كان عمري بحدود الخمس سنوات كانت أمي تحذرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، و لكن أنا أريد أن أعرف كيف يبدو وجهي أمام الناس .. أنا استمتع كثيرا و أنا أقضي أكبر وقت ممكن أحملق في وجهي بالمرآة .. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، و على نحو أستطيع تخيله في أي وقت أريد، و في أي حال و هيئة أكون فيها .. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة .. و لطالما تمنيت أن يكون الله قد خلق لنا عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا بيسر و سهولة..

و عندما وجدت الخلوة و الفراغ و الوقت الكافي لإشباع رغبتي، حدث لي شيئا غريبا لازلت أذكره إلى اليوم .. كنت في الحجرة العليا بدارنا القديم، و الذي صار اليوم مهجورا .. كانت الحجرة مسقوف نصفها، و نصفها بدون سقف .. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف .. و تبدو تلك الحجرة مؤنسة، و تمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار.

أذكر أن مرآة متوسطة الحجم و مستطيلة الشكل كانت بحوزتي .. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة و سعيدة .. لا أحد معي في الحجرة غيرها .. لا أذكر تحديدا أين كانت أمي و خالتي و قاطني الدار .. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه .. الأكيد أنني كنت استغل غفلة أهلي و مستفردا بنفسي مع المرآة .. كنت أريد أن استمتع بخلوتي و بالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت ممكن و متاح..

 كنت أشاهد صورتي في المرآة، و أقلد حركات الوجوه .. أتجهم، و أتصنع الضحك و البكاء و الغضب .. أزم شفتاي و أرخيها .. أقطب جبيني و أرخيه، و استعجب .. أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، و أقلبها في كل اتجاه .. أقطب حواجبي و أعقد شفتاي نحو اليمين و نحو اليسار .. أغمز و أحملق و أجهض العينين و أضيّفها و أقلّبها في كل اتجاه .. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج .. لو وقف ساعتها أحدهم على ما أفعله لأنفجر ضاحكا، و فجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..

بغتة و من غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة .. بدا وجهي قد اختطف و استبدل بوجه آخر .. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه قبيح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة و كثيرة، كخريطة طبوغرافية معقدة التضاريس و المنحدرات .. وجه ألقى الرعب و الزلزلة في نفسي، و حفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم .. لا استطيع نسيانه ما حييت .. وجه مدرج بالتجاعيد العميقة و المتزاحمة .. وجه صارم و جهوم و مخيف .. وجه يصعقك بالصدمة و الفزع و الرعب..

 كدت أصرخ .. و بسرعة رميت من يدي المرآة .. خرجت فزعا من الحجرة إلى السطح المكشوف المجاور .. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن .. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي .. كاد قلبي يقفز من صدري ذعرا .. تذكرت على إثرها تحذيرات أمي التي كانت تنصحني دوما على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..

الحقيقة لا أدري من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي و لكن كنت محظوظا، فيما الفتاة فقدت عقلها .. لعل نصيحتها جاء على هكذا مبنى أو سماع .. تجربة بالنسبة لي أقل ما يمكن أن توصف بالمخيفة..

أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة كانت جنية، و كدت أجن مما حدث، و كان الجنون أكيد لو أطلت المشاهد برهة زمن .. و بعد أيام من القطيعة مع المرآة، و بدافع الفضول و التأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد .. عدت لأشاهد صورتي بحضور أمي، و كنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة و بحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي، و ليست صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، و ان الدنيا لازالت بسلام، و من تلك الواقعة إلى اليوم لا أطيل المكوث أمام المرآة، و لكن تلك الواقعة بدت لي أنني شارفت فيها على الجنون و فقدان العقل.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى